طهارة الإنسان روحاً وجسدا
وردت مادة الطهارة في كثير من الآيات الشريفة وأريد منها معان مختلفة.. أهمها:
1: الطهارة المعنوية.
2: الطهارة المادية.
3: الطهارة المشتركة بين المادية والمعنوية.
وسنأتي إلى بعض التوضيح لها.. فقد استعملت مادة (الطهر) بمختلف صيغها (31) مرة في كتاب الله عز وجل.
وردت مادة الطهر بمعنى الطهارة المعنوية في الآية الشريفة: (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم).
فطهارة القلب تعني النظافة المعنوية ورفع الأدران الروحية عنه، فان الأدران والأوساخ كثيرة، منها حب الدنيا ومنها مختلف انواع الأخلاق الرديئة كالحقد والغضب والحسد إلى غير ذلك مما يرين على القلب ويحجبه عن رؤية الحقيقة فيستحيل إلى حجر صلد لا يعرف العاطفة ولا الرقة فيبدأ ببث سمومه إلى هذا الجسم الذي يتحول بدوره إلى آلة تستجيب لرغبات القلب المنحرف.. قال تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة).
وليس المقصود بالقلب هنا تلك العضلة التي يحملها الصدر والمسؤولة عن ضخ الدم إلى الجسم وفصل مواده، وإنما هو مركز الأحساسيس والفعاليات الجسمية والروحية عند الإنسان المحركة له.. وقد يكون الوجه في تسمية ذلك بالقلب أن القلب - بمعنى العضلة المعروفة - متوقف عليه حياة الأجهزة الجسمية الأخرى.. فتتوقف عليه حياة الإنسان فاذا توقفت عضلة القلب كان هو نهاية الإنسان، ومن هنا سمي مركز الروح بالقلب أيضاً.. فكان القلب مركزاً للعواطف والأحاسيس في الأدب وفي الشعر عند كل شعوب العالم.
وأما الطهارة المادية فوردت في قوله تعالى: (وثيابك فطهر).
فإن الطهارة النظافة وهي قد تكون بمعنى عدم النجاسة وقد تكون بمعنى عدم الوساخة، لأن عدم النظافة قد تكون بالوسخ من غير نجاسة وقد تكون بالنجاسة، ويكون معنى الآية: وثيابك الملبوسة فطهرها من النجاسة للصلاة.
ومعلوم أن نظافة اللباس في مرحلة الظاهر تدل على حسن آداب الشخص وثقافته خصوصاً في العصر الجاهلي الذين كانوا في الغالب لا يجتنبون من النجاسة كما كانت ملابسهم وسخة غالباً، بل وكان من الشائع عند بعضهم تطويل أطراف الملابس بحيث كان يزحف على الأرض تكبراً وكان يصبح وسخاً ولعل من هنا ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في معنى الآية الشريفة (وثيابك فطهر) أي ثبابك فقصّر.
كما فسرت الآية الشريفة (وثيابك فطهر) بالطهارة الجامعة بين المادية والمعنوية.. فقد قيل: إن المراد من الثياب هنا - كناية - عمل الإنسان لأنه بمنزلة لباسه الظاهر، ولأن الظاهر يكشف عن الباطن فورد الحث عليهما بهذا التعبير (وثيابك فطهر).
وقيل: المراد منه القلب والروح فالآية تدعو النبي (صلى الله عليه وآله) لأن يطهر قلبه وروحه من كل الأدران.
ومما جاء في هذه المعاني أيضاً قوله تعالى في صدقات الأموال: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها).
وقد جاء في تفسير (تقريب القرآن إلى الأذهان) في بيان معنى الآية، قوله: (خذ) يا رسول الله (من أموال) هؤلاء الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً (صدقة) وهي بعض أموالهم ولذا جاء بـ (من) والظاهر من السياق أنها غير الصدقة المفروضة التي هي الزكاة وقد قال المفسرون: إن الرسول (صلى الله عليه وآله) أخذ ثلث أموال التائبين وترك لهم الثلثين، تلك الصدقة (تطهرهم) من دنس الذنوب والخطايا، أو المراد تطهرهم أنت بتلك الصدقة، وتطهير الإنسان بالصدقة إنما هو تطهير معنوي فإن للذنوب نجاسة والصدقة توجب تنظيف الإنسان من تلك النجاسة لأنها موجبة للغفران وطرد الآثام (وتزكيهم بها) لأن التزكية هي التنمية، إذ الصدقة توجب النمو، والمراد من النمو الأعم من الخُلقُي والخَلقي وسائر أقسام النمو وسميت زكاة لأنها توجب نمو صاحبها).
وكما يهتم الإنسان بمظهره الخارجي ونظافته الظاهرية كلما هم بالخروج إلى الناس. فيحسن وجهه ويطيب بدنه فكذلك هو بحاجة إلى أن يطهر نفسه عن الأوساخ الباطنية في كل وقت.. وكما أن هناك مطهرات مادية ومطيبات يتفنن الخبراء في تنويعها أو اختيار أفضلها فكذلك للروح مطهراتها ومطيباتها الخاصة..
فالعبادة والاشتغال بالذكر والمداومة عليه من أولى مستلزمات تطهير الروح وعلوها إلى المراتب الموصلة إلى الحياة الأبدية.
وكلما ابتعد الإنسان عن عالم الروح بدأت الذنوب تترى عليه فيسودّ قلبه وتتراكم عليه الخطايا والآثام، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (أعجب ما في الإنسان قلبه وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن سعد بالرضى نسي التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمن استلبته العزة، وإن جددت له النعمة أخذته العزة، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن استفاد مالا أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن جهده الجزع قعد به الضعف، وإن أفرط في الشبع كفته البطنة، فكل تقصير به مضر وكل إفراط به مفسدة).
وبهذا ينبغي على الإنسان أن يراقب توازنه الإيماني فلا يفرط في شيء أو يفرّط به فيزل عن جادة الصواب ويقسو قلبه بتراكم الذنوب عليه فعندئذ يجب عليه الاغتسال منها بهجرها وإحلال الفضائل الحميدة مكانها ويدعو ربه ويلح عليه بالدعاء وخصوصاً في شهر رمضان الكريم.. شهر التطهير والمغفرة، ولعل من هنا ورد في هذا الدعاء قائلاً: (اللهم اغسلني فيه من الذنوب، وطهرني فيه من العيوب).
وعندما يجد العبد نفسه وقد اغتسل من الذنوب وتبعاتها.. يسعى إلى مرحلة أخرى في تطهير نفسه مما يعيبها أيضاً ومما لا يليق بشأن الإنسان وبالأخص المؤمن، وهو ما يصطلح عليه الفقهاء بـ (منافيات المروّة) فهي ليست ذنوباً ولكنها مما يعيب الشخصية وإن كانت مباحة في حد ذاتها.
وجاء في هذا المعنى إنه قيل لسلمان (رضوان الله عليه): لم لا تلبس ثوباً جديداً؟ فقال: (إنما أنا عبد فإذا أعتقت يوماً لبست جديداُ)، مشيراً إلى العتق في الآخرة.
وأما عن الكيفية التي يمكن معها تطهير النفس من العيوب وما ينافي المروءة وإجراء الإصلاحات أو الترقيعات على ما يطرأ عليها جراء الولوج إلى عالم المادة المليء بالأوبئة والأمراض والتي لابد وأن تحدث لها تبعات وعيوب على الانسان - إلا من عصمه الله - وتترك هذه أثراً بارزاُ على نفسه وكيانه، فقد تكفل علم الأخلاق بيان ذلك.
وقد يجد المرء صعوبة في إصلاح العيوب بادئ الأمر وقد يعجز عنها إلا أنه عند ما يسلم بأن الإرادة والثبات كفيلان بالتغيير المنشود إذا أضيف عليهما التوكل على الله عزوجل، عندئذ يحصل على قوة إضافية تمنحه القدرة على التغيير وإيجاد الحلول المناسبة لكل شرخ في شخصيته.
ثم إن مشاكل النفس غير محسوسة في الغالب بواسطة الحواس الظاهرة إلا أن الإنسان من حيث انه أبصر الناس بعيوبه ومداخلات نفسه يمكنه كشفها والتعرف عليها.. ولعل هذا ما يشير إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة).
فهو أدرى بكل ما فعل.. وكذلك يدري صلاح وفساد عمله، وبذا يتحمل أية تبعة تلحقه إثر فعله.
ومن بعد ذلك يسأل العبد ربه قائلاً: (وامتحن قلبي فيه بتقوى القلوب).
قال تعالى: (إنما يتقبل الله من المتقين).
وقال سبحانه: (إلا من أتى الله بقلب سليم).
فما علاقة التقوى بالقلب؟
يعتبر القلب المركز الأساسي لفساد أو صلاح الإنسان، فقد ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله) قوله: (في الإنسان مضغة إذا هي سلمت وصحت سلم بها سائر الجسد، فإذا سقمت سقم بها سائر الجسد وفسد.. وهي القلب).
وقال تعالى في محكم كتابه العزيز: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه).
فلا يمكن أن يكون المرء كافراً ومؤمناً في نفس الوقت.. أو متقياً وعاصياً.. وهكذا.
ومن هنا يأتي طلب التقوى من الله تعالى في هذا الدعاء حيث يقول: (وامتحن قلبي فيه بتقوى القلوب) أي اجعله خاضعاً لك حذراً مما يغضبك.
ولابد للمؤمن من خطوات مدروسة تنمي حالة التقوى في قلبه.. منها ما يذكرها الحديث الوارد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في وصيته لجابر، يقول (عليه السلام): (وتخلص إلى راحة النفس بصحة التفويض، واطلب راحة البدن باجمام القلب، وتخلص إلى اجمام القلب بقلة الخطأ، وتعرض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات، واستجلب نور القلب بدوام الحزن، وتحرز من إبليس بالخوف الصادق).
وعلى هذا فإن الذنوب هي الأعمال السيئة التي يأتي بها الإنسان في حياته ويعاقب عليها دنيويا أو أخرويا، وقد أطلق عليها القرآن لفظا آخر وهو (السيئات) عكس عمل الخير (الحسنات)..
وللذنوب آثار دنيوية تترتب عليها مما يميزها عن العيوب التي تعد أخطاء في شخصية الإنسان وتصرفاته.
فيروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فإن تاب انمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها آبدا).
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله: (كلما أحدث العباد من الذنوب مالم يكونوا يعملون أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون).
فهناك معادلة طردية بين الذنب والبلاء، وبقدر حجم الذنب يأتي البلاء عقبه، بل يذهب إلى أكثر من ذلك إلى تقصير الآجال كما ورد في الخبر المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) الذي يقول: (من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال ومن يعيش بالإحسان أكثر مما يعيش بالأعمار).
الإسلام دين عمل.. ويحذر من الكسل والخمول، لأنه مشروع حضاري متكامل، فهو يعمد إلى خلق مجتمع صالح ذي بنية قوية تصمد بوجه التيارات المنحرفة، فإن الإسلام يعد المشروع الكامل لصلاح البشرية في كل أصقاع الأرض، الأمر الذي أدى بأعداء الإسلام لأن يعدوا الهجوم تلو الآخر مصوبين سهامهم إلى المجتمع الإسلامي لينالوا من بنيته الاجتماعية ويهدموه من الداخل..
إذا فالواجب على المسلمين أن يتوجهوا جيدا خصوصا بعد التقدم العلمي الكبير في الاتصالات والتي دخلت وتغلغلت عبر الأقمار الصناعية وما أشبه في شريان الجسد الإسلامي.. ألا وهو العائلة فأصبح التفزيون وسائر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمبصرة خطرا حقيقيا يهدد كيان الأسرة المسلمة.. وإذا لم ينتبه علماء الأمة بصياغة برنامج مضاد لهذا الغزو الثقافي الكاسح وإيجاد وسائل إعلام هادفة ونزيهة تروج الدين والأخلاق والفضيلة فإن خطط الأعداء سيكتب لها النجاح ولن تقف بهذه الهجمة عند هذا الحد بل ستشتد وعندها سيكون من العسير جدا مقاومتها.
ولنجعل من شهر رمضان المبارك فرصة للتفكير والتخطيط والعمل الدائب من أجل تحصين المجتمع الإسلامي وإنقاذه من المفاسد التي تحيط به، بل وحثه نحو التقوى والعمل الصالح، والدعاء هو أقصر الطرق لنيل التوفيق في ذلك إذا اقترن بالعمل المناسب، لذا ينبغي أن نكرر دعاءنا صباحا ومساء ونلجأ إلى الله سبحانه ليهدينا إلى تقوى القلوب قائلين:
(وامتحن قلبي فيه بتقوى القلوب، يا مقيل عثرات المذنبين)..
اللهم وفقنا لخدمة خلقك ودينك وأعنا على طاعتك والاجتناب عن معصيتك بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وردت مادة الطهارة في كثير من الآيات الشريفة وأريد منها معان مختلفة.. أهمها:
1: الطهارة المعنوية.
2: الطهارة المادية.
3: الطهارة المشتركة بين المادية والمعنوية.
وسنأتي إلى بعض التوضيح لها.. فقد استعملت مادة (الطهر) بمختلف صيغها (31) مرة في كتاب الله عز وجل.
وردت مادة الطهر بمعنى الطهارة المعنوية في الآية الشريفة: (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم).
فطهارة القلب تعني النظافة المعنوية ورفع الأدران الروحية عنه، فان الأدران والأوساخ كثيرة، منها حب الدنيا ومنها مختلف انواع الأخلاق الرديئة كالحقد والغضب والحسد إلى غير ذلك مما يرين على القلب ويحجبه عن رؤية الحقيقة فيستحيل إلى حجر صلد لا يعرف العاطفة ولا الرقة فيبدأ ببث سمومه إلى هذا الجسم الذي يتحول بدوره إلى آلة تستجيب لرغبات القلب المنحرف.. قال تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة).
وليس المقصود بالقلب هنا تلك العضلة التي يحملها الصدر والمسؤولة عن ضخ الدم إلى الجسم وفصل مواده، وإنما هو مركز الأحساسيس والفعاليات الجسمية والروحية عند الإنسان المحركة له.. وقد يكون الوجه في تسمية ذلك بالقلب أن القلب - بمعنى العضلة المعروفة - متوقف عليه حياة الأجهزة الجسمية الأخرى.. فتتوقف عليه حياة الإنسان فاذا توقفت عضلة القلب كان هو نهاية الإنسان، ومن هنا سمي مركز الروح بالقلب أيضاً.. فكان القلب مركزاً للعواطف والأحاسيس في الأدب وفي الشعر عند كل شعوب العالم.
وأما الطهارة المادية فوردت في قوله تعالى: (وثيابك فطهر).
فإن الطهارة النظافة وهي قد تكون بمعنى عدم النجاسة وقد تكون بمعنى عدم الوساخة، لأن عدم النظافة قد تكون بالوسخ من غير نجاسة وقد تكون بالنجاسة، ويكون معنى الآية: وثيابك الملبوسة فطهرها من النجاسة للصلاة.
ومعلوم أن نظافة اللباس في مرحلة الظاهر تدل على حسن آداب الشخص وثقافته خصوصاً في العصر الجاهلي الذين كانوا في الغالب لا يجتنبون من النجاسة كما كانت ملابسهم وسخة غالباً، بل وكان من الشائع عند بعضهم تطويل أطراف الملابس بحيث كان يزحف على الأرض تكبراً وكان يصبح وسخاً ولعل من هنا ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في معنى الآية الشريفة (وثيابك فطهر) أي ثبابك فقصّر.
كما فسرت الآية الشريفة (وثيابك فطهر) بالطهارة الجامعة بين المادية والمعنوية.. فقد قيل: إن المراد من الثياب هنا - كناية - عمل الإنسان لأنه بمنزلة لباسه الظاهر، ولأن الظاهر يكشف عن الباطن فورد الحث عليهما بهذا التعبير (وثيابك فطهر).
وقيل: المراد منه القلب والروح فالآية تدعو النبي (صلى الله عليه وآله) لأن يطهر قلبه وروحه من كل الأدران.
ومما جاء في هذه المعاني أيضاً قوله تعالى في صدقات الأموال: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها).
وقد جاء في تفسير (تقريب القرآن إلى الأذهان) في بيان معنى الآية، قوله: (خذ) يا رسول الله (من أموال) هؤلاء الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً (صدقة) وهي بعض أموالهم ولذا جاء بـ (من) والظاهر من السياق أنها غير الصدقة المفروضة التي هي الزكاة وقد قال المفسرون: إن الرسول (صلى الله عليه وآله) أخذ ثلث أموال التائبين وترك لهم الثلثين، تلك الصدقة (تطهرهم) من دنس الذنوب والخطايا، أو المراد تطهرهم أنت بتلك الصدقة، وتطهير الإنسان بالصدقة إنما هو تطهير معنوي فإن للذنوب نجاسة والصدقة توجب تنظيف الإنسان من تلك النجاسة لأنها موجبة للغفران وطرد الآثام (وتزكيهم بها) لأن التزكية هي التنمية، إذ الصدقة توجب النمو، والمراد من النمو الأعم من الخُلقُي والخَلقي وسائر أقسام النمو وسميت زكاة لأنها توجب نمو صاحبها).
وكما يهتم الإنسان بمظهره الخارجي ونظافته الظاهرية كلما هم بالخروج إلى الناس. فيحسن وجهه ويطيب بدنه فكذلك هو بحاجة إلى أن يطهر نفسه عن الأوساخ الباطنية في كل وقت.. وكما أن هناك مطهرات مادية ومطيبات يتفنن الخبراء في تنويعها أو اختيار أفضلها فكذلك للروح مطهراتها ومطيباتها الخاصة..
فالعبادة والاشتغال بالذكر والمداومة عليه من أولى مستلزمات تطهير الروح وعلوها إلى المراتب الموصلة إلى الحياة الأبدية.
وكلما ابتعد الإنسان عن عالم الروح بدأت الذنوب تترى عليه فيسودّ قلبه وتتراكم عليه الخطايا والآثام، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (أعجب ما في الإنسان قلبه وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن سعد بالرضى نسي التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمن استلبته العزة، وإن جددت له النعمة أخذته العزة، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن استفاد مالا أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن جهده الجزع قعد به الضعف، وإن أفرط في الشبع كفته البطنة، فكل تقصير به مضر وكل إفراط به مفسدة).
وبهذا ينبغي على الإنسان أن يراقب توازنه الإيماني فلا يفرط في شيء أو يفرّط به فيزل عن جادة الصواب ويقسو قلبه بتراكم الذنوب عليه فعندئذ يجب عليه الاغتسال منها بهجرها وإحلال الفضائل الحميدة مكانها ويدعو ربه ويلح عليه بالدعاء وخصوصاً في شهر رمضان الكريم.. شهر التطهير والمغفرة، ولعل من هنا ورد في هذا الدعاء قائلاً: (اللهم اغسلني فيه من الذنوب، وطهرني فيه من العيوب).
وعندما يجد العبد نفسه وقد اغتسل من الذنوب وتبعاتها.. يسعى إلى مرحلة أخرى في تطهير نفسه مما يعيبها أيضاً ومما لا يليق بشأن الإنسان وبالأخص المؤمن، وهو ما يصطلح عليه الفقهاء بـ (منافيات المروّة) فهي ليست ذنوباً ولكنها مما يعيب الشخصية وإن كانت مباحة في حد ذاتها.
وجاء في هذا المعنى إنه قيل لسلمان (رضوان الله عليه): لم لا تلبس ثوباً جديداً؟ فقال: (إنما أنا عبد فإذا أعتقت يوماً لبست جديداُ)، مشيراً إلى العتق في الآخرة.
وأما عن الكيفية التي يمكن معها تطهير النفس من العيوب وما ينافي المروءة وإجراء الإصلاحات أو الترقيعات على ما يطرأ عليها جراء الولوج إلى عالم المادة المليء بالأوبئة والأمراض والتي لابد وأن تحدث لها تبعات وعيوب على الانسان - إلا من عصمه الله - وتترك هذه أثراً بارزاُ على نفسه وكيانه، فقد تكفل علم الأخلاق بيان ذلك.
وقد يجد المرء صعوبة في إصلاح العيوب بادئ الأمر وقد يعجز عنها إلا أنه عند ما يسلم بأن الإرادة والثبات كفيلان بالتغيير المنشود إذا أضيف عليهما التوكل على الله عزوجل، عندئذ يحصل على قوة إضافية تمنحه القدرة على التغيير وإيجاد الحلول المناسبة لكل شرخ في شخصيته.
ثم إن مشاكل النفس غير محسوسة في الغالب بواسطة الحواس الظاهرة إلا أن الإنسان من حيث انه أبصر الناس بعيوبه ومداخلات نفسه يمكنه كشفها والتعرف عليها.. ولعل هذا ما يشير إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة).
فهو أدرى بكل ما فعل.. وكذلك يدري صلاح وفساد عمله، وبذا يتحمل أية تبعة تلحقه إثر فعله.
ومن بعد ذلك يسأل العبد ربه قائلاً: (وامتحن قلبي فيه بتقوى القلوب).
قال تعالى: (إنما يتقبل الله من المتقين).
وقال سبحانه: (إلا من أتى الله بقلب سليم).
فما علاقة التقوى بالقلب؟
يعتبر القلب المركز الأساسي لفساد أو صلاح الإنسان، فقد ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله) قوله: (في الإنسان مضغة إذا هي سلمت وصحت سلم بها سائر الجسد، فإذا سقمت سقم بها سائر الجسد وفسد.. وهي القلب).
وقال تعالى في محكم كتابه العزيز: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه).
فلا يمكن أن يكون المرء كافراً ومؤمناً في نفس الوقت.. أو متقياً وعاصياً.. وهكذا.
ومن هنا يأتي طلب التقوى من الله تعالى في هذا الدعاء حيث يقول: (وامتحن قلبي فيه بتقوى القلوب) أي اجعله خاضعاً لك حذراً مما يغضبك.
ولابد للمؤمن من خطوات مدروسة تنمي حالة التقوى في قلبه.. منها ما يذكرها الحديث الوارد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في وصيته لجابر، يقول (عليه السلام): (وتخلص إلى راحة النفس بصحة التفويض، واطلب راحة البدن باجمام القلب، وتخلص إلى اجمام القلب بقلة الخطأ، وتعرض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات، واستجلب نور القلب بدوام الحزن، وتحرز من إبليس بالخوف الصادق).
وعلى هذا فإن الذنوب هي الأعمال السيئة التي يأتي بها الإنسان في حياته ويعاقب عليها دنيويا أو أخرويا، وقد أطلق عليها القرآن لفظا آخر وهو (السيئات) عكس عمل الخير (الحسنات)..
وللذنوب آثار دنيوية تترتب عليها مما يميزها عن العيوب التي تعد أخطاء في شخصية الإنسان وتصرفاته.
فيروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فإن تاب انمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها آبدا).
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله: (كلما أحدث العباد من الذنوب مالم يكونوا يعملون أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون).
فهناك معادلة طردية بين الذنب والبلاء، وبقدر حجم الذنب يأتي البلاء عقبه، بل يذهب إلى أكثر من ذلك إلى تقصير الآجال كما ورد في الخبر المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) الذي يقول: (من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال ومن يعيش بالإحسان أكثر مما يعيش بالأعمار).
الإسلام دين عمل.. ويحذر من الكسل والخمول، لأنه مشروع حضاري متكامل، فهو يعمد إلى خلق مجتمع صالح ذي بنية قوية تصمد بوجه التيارات المنحرفة، فإن الإسلام يعد المشروع الكامل لصلاح البشرية في كل أصقاع الأرض، الأمر الذي أدى بأعداء الإسلام لأن يعدوا الهجوم تلو الآخر مصوبين سهامهم إلى المجتمع الإسلامي لينالوا من بنيته الاجتماعية ويهدموه من الداخل..
إذا فالواجب على المسلمين أن يتوجهوا جيدا خصوصا بعد التقدم العلمي الكبير في الاتصالات والتي دخلت وتغلغلت عبر الأقمار الصناعية وما أشبه في شريان الجسد الإسلامي.. ألا وهو العائلة فأصبح التفزيون وسائر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمبصرة خطرا حقيقيا يهدد كيان الأسرة المسلمة.. وإذا لم ينتبه علماء الأمة بصياغة برنامج مضاد لهذا الغزو الثقافي الكاسح وإيجاد وسائل إعلام هادفة ونزيهة تروج الدين والأخلاق والفضيلة فإن خطط الأعداء سيكتب لها النجاح ولن تقف بهذه الهجمة عند هذا الحد بل ستشتد وعندها سيكون من العسير جدا مقاومتها.
ولنجعل من شهر رمضان المبارك فرصة للتفكير والتخطيط والعمل الدائب من أجل تحصين المجتمع الإسلامي وإنقاذه من المفاسد التي تحيط به، بل وحثه نحو التقوى والعمل الصالح، والدعاء هو أقصر الطرق لنيل التوفيق في ذلك إذا اقترن بالعمل المناسب، لذا ينبغي أن نكرر دعاءنا صباحا ومساء ونلجأ إلى الله سبحانه ليهدينا إلى تقوى القلوب قائلين:
(وامتحن قلبي فيه بتقوى القلوب، يا مقيل عثرات المذنبين)..
اللهم وفقنا لخدمة خلقك ودينك وأعنا على طاعتك والاجتناب عن معصيتك بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.